" الرياضيات هي الموضوع الذي لا نعرف فيه عما نتحدث،
ولا نعرف إن كان ما نقوله صحيحاً أم لا".
ذلكم هو التعريف الوجيز للرياضيات الذي قدمه أحد كبار علمائها وأحد كبار فلاسفة العلم، برتراند راسل. وإذا كان هذا التعريف يوحي بشيء من التواضع؛ فإنه على العكس تماماً يمثل أقسى ما يمكن أن يدعيه الرياضيون من الفخر، كما أنه يشير ضمنياً إلى الثقة المطلقة بالرياضيات رغم ما فيها من اتساع وتجريد وصعوبة، بل ومن تناقضات لا تخلو منها، ظاهرياً على الأقل. فلئن تستطيع الرياضيات متابعة التقدم والنمو، سابقة جميع العلوم الأخرى، كي تقدم لها الخلفية اللازمة لنموها. ولئن يتزايد استخدام الرياضيات في شتّى الميادين، بشكل أكثر فأكثر تأثيراً، كل ذلك رغم ما فيها من تجريد، يكاد يجعلنا نجزم بعدم فائدتها….. ورغم أننا إذ نتحدث في الرياضيات البحتة، فإننا نتكلم بالفعل في موضوع لا نعرف فيه عمّا نتحدث، ولا نعرف إن كان ما نقوله صحيحاً أم لا… إن كل ذلك ليؤكد أهمية وعظمة هذا الفرع من فروع الفكر الإنساني. فما هي الرياضيات بادئ ذي بدء؟ .
يحتاج إدراك ما تنطوي عليه كلمة "رياضيات" إلى دراسة مقدار غير ضئيل منها، وذلك شرط لازم لكنه غير كاف، إذ يلزم أيضاً وجود بصيرة نافذة وحدس عميق يتمثل السر الكامن وراء الدراسات المجردة، ذلك السر الذي يعطي الرياضيات سحرها وجلالها، كما يلزم موهبة من نوع خاص تنمو مع نمو الدراسة الرياضية وتصقل بتقدمها. ومع ذلك، يمكننا تجاوز الأمر عن طريق بعض المقاربات البسيطة وترك المفهوم يوضح نفسه بنفسه من خلال سياق الحديث.
يجري التمييز عادة بين رياضيات بحتة ورياضيات تطبيقية وتشكل الأولى موضوع حديثنا. وهي تلك الفروع من الرياضيات المُغرقة في التجريد والتي تظهر للوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن التطبيق والإفادة على الصعيد العملي، فهي ضرب من الفن الفكري الرفيع الذي يطوره أصحابه بدافع واحد، هو تنمية بناءه أكثر فأكثر، سواء كان ذلك فائدة عملية أم لم يكن، لكننا في الحقيقة، لا نستطيع أن نفصل أبداً بين الرياضيات المجردة والرياضيات التطبيقية، فهذا العلم الفن، إنما يبدأ دوماً أفكاراً مجردة وبنىً غريبة خاصة تؤلف عوالم قائمة بذاتها، تبدو بعيدة جداً عن عالم الواقع، لكن الفيزيائيين والتقانيين والعلماء الآخرين من مختلف الفروع، سرعان ما يجدون حلولاً لمشاكلهم، في هذه العوالم المجردة التي غالباً ما يكون واضعوها قد أشادوها لأغراض مستقلة عن أي وظيفة عملية… ومع ذلك يشدد الرياضيون أنفسهم، على أن الرياضيات الحقة هي تلك التي لا تُعنى بأي تطبيق، بل تسعى إلى إكمال ذاتها كبنيان خاص، بل كعالم مستقل يستطيع الفكر فيه أن يجد مجالاً رحباً لإمكانياته الحقيقية إن الرياضيات من هذا المنظور فن من الفنون، بل هي إحدى أرقى الفنون ذلك أنها أصعبها. هذا ما يراه برتراند راسل أيضاً حين يقول: "إننا لو استعرضنا الرياضيات استعراضاً صحيحاً، لما وجدنا فيها الحقيقة فحسب، بل وجدنا فيها جمالاً سامياً جمال البرود والقسوة والصرامة هو جمال فيه الصفاء والسناء، والمقدرة على بلوغ الكمال، الذي لا يتاح إلاّ لأعظم الفنون".
ومع ذلك يطرح الجميع السؤال: هل يكفي ذلك كي يكون للرياضيات كل تلك الأهمية؟ ومن جهة أخرى: لماذا وكيف يكون لهذه البنى المغرقة في التجريد هذه الضرورة، وما هي الكيفية التي يعمل بها هذا العلم في دفع العلوم الأخرى وإتاحة الفرصة لها للتقدم باستمرار؟…. لماذا يتوجب على طلبة المدارس-أيضاً- أن يتعرفوا على البنى الجبرية ونظرية المجموعات وعلى جبر بول وأن يدرسوا التوابع الأسية واللغاريتمية وأن يطّلعوا على الفراغ الشعاعي والتطبيقات الخطية والأعداد العقدية. وغير ذلك من الأسس الأولية للرياضيات، دون أن يعرفوا أو أن يكون لهم الحق بالتساؤل، عن فائدة هذه الدراسات ودورها ومدى فائدتها وضرورتها، بل دون أن يفيدوا-ظاهرياً على الأقل- من هذه الدراسات، في حياتهم اللاحقة.
قد يجد بعض هؤلاء الطلاب وأعني منهم الذين يتابعون دراسات علمية معينة، بعضاً من الجواب على ذلك السؤال الكبير: "لماذا الرياضيات". لكن الإجابة الكاملة نادراً ما تصل حتى إلى أولئك الذين يتخذون الرياضيات نفسها مادة لدراساتهم الجامعية والعليا أو وسيلة لكسب رزقهم! ورغم ذلك تستمر الرياضيات بالتدخل في حياة الناس وعلى جميع المستويات ويزداد دخولها في المناهج الجامعية إلى حد أن لا تخلو منها كليات الآداب!
تتعامل الرياضيات مع كائنات مجردة، مع بنات أفكار وبنات خيال. وليس مع أمور ملموسة أو مفاهيم طبيعية كما هو الحال في العلوم الأخرى ولعل هذا هو السبب الأساسي فيما يبدو ظاهرياً من بعد الرياضيات عن الإسهام المباشر في عملية معرفة الطبيعة. إلا من خلال العلوم الأخرى. ولكن… لنتوقف قليلاً هنا، عند كلمة "المعرفة" .
منذ البدء سعى الإنسان لوعي وجوده ولمعرفة الحقيقة التي تنتظم هذا الوجود. تروي الأسطورة أن الإنسان الأول قد تناول من الشجرة المحرّمة شجرة المعرفة، فسقط! كذا كانت المعرفة علة الوجود الإنساني على كوكب الأرض… أفلا تكون غاية هذا الوجود والقصد منه أيضاً…؟ إن الإنسان لمّا يكف لحظة منذ ذلك الحين عن السعي وراء المعرفة، فهو يبحث دائباً مستقصياً كل الأشياء ممعناً في تحليل كل ما حوله ذلك أن شعوراً عميقاً، واعياً حيناً وخافياً في أغلب الأحيان، يغذي فيه نزعة البحث، ويؤكد له العقيدة بوجود حقيقة أولية تنتظم الكون بمجمله وبما فيه الوجود الإنساني، حقيقة لا يستطيع المرء التنكر لها. إذ يعني إنكارها إفراغاً للوجود الإنساني من معناه ومن رسالته، كذا تكون حياة الإنسان رحلةً في طريق المعرفة وتحقيقاً يسعى لإكمال ذاته في الوصول إليها.
ولكي نكون أكثر وضوحاً في تحديد معاني الكلمات. نشير إلى أن مفهوم الحقيقة ضمن ما ورد لا يعني كمية من المعلومات الصحيحة أو كل المعلومات الصحيحة الممكنة. وهو ليس صيغة أو قانوناً نهائياً يصف العالم بجملته وتفصيله. إذ أن أية معلومة هي معلومة نسبية حكماً وأي نظرية علمية هي نظرية تستطيع الاضطلاع بوصف بعض مظاهر الطبيعة ضمن ظروف وأحوال معينة. في حين نتحدث هنا عن معرفة الحقيقة المطلقة، والتي نعتبر الوصول إليها غاية الوجود الإنساني ورسالته. إن ما نرمي إليه عندما نتحدث عن الحقيقة هو حالة أخرى من الوجود أكثر سمواً. ومعرفة الحقيقة هي بالتحديد سياق الترفع نحو هذه الحالة.
إن المعرفة بهذا المعنى هي فعل تحقيق لا امتلاك، وبمعنى أكثر وضوحاً ودقة نقول إن فعل معرفة الحقيقة هي فعل تفتح ذهني وتالياً نفسي، يتجاوز فيه الإنسان إمكانياته ليصعدها إلى مرتبة أرفع. فللمعرفة كما رآها الشيخ محي الدين ابن عربي "ثلاثة أشكال، أولها ثقافي، وثانيها عاطفي، أما الثالث فيجسد المعرفة الحقة، التي تميز معرفة الحقيقة. وفي الشكل الثالث يمكن للمرء وعي ما هو صواب وحق من خلف حدود الفكر والإحساس".
كذا لا نفرق بعد بين عبارة "فعل معرفة الحقيقة" وعبارة "سيرورة التفتح البشري". هذا الفعل وتلك السيرورة الذين سلك فيهما الإنسان طرقاً شتى من فنون وعلوم وفلسفات وأديان، ومن طرائق روحية ومدارس سرانية وعلوم نفسية وطرق أخرى أكثر من أن تحصى…. وإذا كنا لا ننكر أهمية جميع أوجه النشاط هذه وتكاملها في توجيه الإنسان نحو تحقيق ذاته فإننا نشدد على دور العلم، وأعني العلم البحت، كونه الطريق الأكثر جمعية في قيادة هذه السيرورة على المستوى العالمي. إن العلم وفي أساسه الرياضيات هو أهم الطرق التي توجهنا إلى إدراك الحقيقة المنشودة. وكما قال مرة العالم الكبير آلبرت اينشتاين:" لا يتردد العلم أبداً في معارضة المنطق العام الفطري، فالذي يخشاه هو التضارب بين المفاهيم السائدة والمعطيات الجديدة. وإن حدث هذا التضارب، فإن العلم سرعان ما يسحق الفرضيات القائمة ليصعد معرفتنا إلى سوية أعلى" وواقع الأمر أننا إذا راجعنا بتأنٍ بعض صفحات تاريخ العلم، وجدنا أن كل اكتشاف علمي هو في الظاهر إضافة معلومات جديدة، لكنه في الجوهر قفزة نوعية في سلم معرفتنا، مع كل ما يعني ذلك من تغير في بنيتنا نفسها وعلى مستويات شتّى.
إن اكتشاف لامركزية الأرض على سبيل المثال- يمكن أن يعني في العمق نقلة نوعية للإنسانية نحو تجاوز أنانية جمعية، إن جاز التعبير، ونحو فهم أفضل لموقع هذه الإنسانية في الكون، أما الرياضيات، فلا يخفى أنها تقع- وعلى حد سواء- في أساس اختراع غاليليو لمنظاره وفي قلب رقصة الكواكب الأبدية في السماء. وكمثال آخر نرى إذا تأملنا الثورة المعلوماتية التي تعم عالمنا المعاصر. أن هذا التقدم المعلوماتي- الذي ما كان ليتم بدون رياضيات شديدة التعقيد وعالية المستوى، إنما يشير في الجوهر إلى خطوة هامة نحو شعور أكبر بوحدة وعالمية الإنسان وتحقيق أعمق لهما.
لقد قادتنا الرياضيات عبر تاريخ تطورها الطويل إلى تصور فكري محدد وغير ضبابي لفكرة اللانهاية عبر نظرية المجموعات. وأوضحت لنا مفهومي الحركة والاستمرار عبر حساب التفاضل والتكامل. وحددت لنا معنى الصدفة من خلال نظرية الاحتمالات وأخيراً وليس آخراً يعالج أحدث فروع الرياضيات مفهومي النظام والفوضى ليعطيهما معنىً رياضياً لا لبس فيه وهو الأمر الذي تتصدى له نظرية الشواش. بيد أن تأملاً عميقاً يجعلنا نرى في هذه الأمثلة الوجه الآخر للتطور الرياضي: لقد أعطت دراسة نظريات المجموعات لعقولنا مقدرة أعلى، فأصبح بإمكانها تحليل اللانهاية، وزوّد فهم التحليل الرياضي أدمغتنا بأضواء جديدة يلقيها على مفهوم الحركة. ومنحتنا نظرية الاحتمالات بصيرة نواجه من خلالها إشكالية الصدفة…. ولا يخفى على أحد أن مفاهيم من هذا النمط: اللانهاية-الحركة-الصدفة-النظام والفوضى…الخ. هي مفاهيم مفاتيح في فهمنا للكون والتعرف عليه، ولكن… كيف تفعل الرياضيات ذلك، وبأية طريقة؟.
انا الطالبة :هديه خلف المطيري
من شعبه :
R2